تحليل "رواية اللص والكلاب"

تحليل "رواية اللص والكلاب"

الشخصية في رواية اللص والكلاب:

سوف نحاول في هذا المبحث التطبيقي أن نرصد صورة الشخصية في رواية نجيب محفوظ "اللص والكلاب" من خلال التركيز على شخصية واحدة ألا وهي شخصية سعيد مهران.
سعيد مهران في رواية "اللص والكلاب " شخصية متأزمة تعيش مأزقا مصيريا، إنها تذكرنا بالبطل الإشكالي اللوكاشي والگولدماني. يحمل البطل قيما أصيلة يحاول أن يغرسها في المجتمع الذي يعيش فيه إلا أنه يصاب بالخيبة والفشل عندما يحتك بواقعه المنحط الذي تسوده القيم الكمية الزائفة والوساطة المادية التبادلية. ولم يستطع تغيير واقعه على الرغم من محاولاته الخاطئة التي كانت تصيب الأبرياء فقط دون أعدائه. إن سعيد مهران لم يستطع أن ينجز الأفكار والمبادئ التي كان يؤمن بها والتي تعلمها من رؤوف علوان؛ لأن الواقع كان مهترئا تسوده السلبية المتدهورة ، كما أن هذا الواقع الذي يحاول أن يفجر فيه سعيد مهران أفعاله هو واقع غير مكتمل وغير منجز، تعبث به أيدي الإجرام والخيانة والغدر.
يصور نجيب محفوظ شخصيته الأساسية في الرواية باعتبارها شخصية مأساوية على عتبة القرار الأخير في لحظة الأزمة وفي لحظة انعطاف فعلها نحو اللاجدوى واللافعل أو نحو فعل غير منجز وغير محسوب.
هذا، وتصور رواية اللص والكلاب شخصية سعيد مهران بأنه لص خرج من السجن صيفا بعد أن قضى به أربعة أعوام غدرا لينتقم من الذين اغتنوا على حساب الآخرين، وزيفوا المبادئ، وداسوا على القيم الأصيلة مثل: رؤوف علوان وعليش سدره ونبوية لكي يجعل من الحياة معنى بدلا من العبثية ولا جدواها. وهكذا قرر أن ينتقم من هؤلاء الكلاب إلا أن محاولاته كانت كلها عابثة تصيب الأبرياء وينجو منها الأعداء مما زاد الطين بلة. فصارت الحياة عبثا بلا معنى ولاهدف ، ولقي مصيره النهائي في نهاية الرواية بنوع من اللامبالاة وعدم الاكتراث:" ولم يعرف لنفسه وضعا ولا موضعا، ولا غاية وجاهد بكل قسوة ليسيطر على شيء ما ليبذل مقاومة أخيرة، ليظفر عبثا بذكرى مستعصية، وأخيرا لم يجد بدا من الاستسلام،فاستسلم بلا مبالاة...بلامبالاة".
تتموقع هذه الصورة الروائية الدرامية - سياقيا -عندما حوصر سعيد مهران من قبل المخبرين والكلاب في آخر نهاية الرواية. فهذه الصورة الروائية ذات قاموس وجودي تتمثل في الكلمات الآتية: غاية، عبث، بلا مبالاة، لم يعرف وضعا ولا موضعا. إنها تؤكد مدى سيزيفية شخصية سعيد مهران التي أصيبت بالخيبة عندما انهارت قيم المجتمع ومبادئه الأصيلة. وتوصف شخصية الرواية الرئيسية بأنها شخصية متأزمة متوترة تعيش فضاء العتبة، فضاء القلق والتردد والتمزق بين الذات والموضوع. إنها شخصية مغلقة لاوجود لها، مصيرها عبث بدون كينونة حقيقية، ولامكان لها ولاهدف، إنها حياة بلا طعم ولا لذة. وذهبت محاولات سعيد مهران كلها سدى، لم تستطع أن تجعل من الحياة هدفا ذا معنى. فلم تكن مقاومته في الأخير إلا عملا غير منجز وغير مكتمل، انتهى بالموت والمصير المحتوم. لذلك ارتضى بطل الرواية سبيل الاستسلام والموت الرخيص مادامت الحياة عبارة عن لامبالاة. ولقد كرر السارد هذه الكلمة تأكيدا على عبثية الحياة وعدم استحقاقها لأن تعاش، مادامت القيم الكيفية أصبحت قيما منحطة ومشيأة:" وأخيرا جاءت الكلاب وانقطع الأمل، ونجا الأوغاد ولو إلى حين، وقالت الحياة كلمتها الأخيرة بأنها عبث ومن المستحيل تحديد مصدر النباح الذي ينطلق مع الهواء في كل موقع وألا أمل في الهروب من الظلام بالجري في الظلام، نجا الأوغاد وحياتك عبث"
يتسم المعجم اللغوي في هذه الصورة الروائية بالطاقة الرمزية والشحنة الإيمائية والكنائية. فالكلاب هنا رمز للخونة والانتهازيين الذين غدروا بسعيد مهران وداسوا على المبادئ التي كانوا ينادون بها كالحرية والعدالة الاجتماعية ولاسيما رؤوف علوان وزوجته نبوية التي غدرت به وتزوجت عليش سدره .أما كلمة الأوغاد فهي دلالة على اللصوص الحقيقيين الذين خانوا العهد وفرطوا في القيم الأصيلة التي كانوا يتشدقون بها. أما الظلام فيتضمن بعدين: بعدا مرجعيا وبعدا رمزيا، فهناك الظلام باعتباره مؤشرا على سوداوية الفضاء وتأزمه، والظلام بالمفهوم الكنائي يعني الظلم الاجتماعي والسياسي وضغط الحكومة وجور سلطتها وانتهازية أعوانها . وتصور هذه الصورة مأزقية الشخصية الروائية (سعيد مهران) عندما ووجهت من كل مكان من قبل الشياطين الآدمية وقوى الكم والإحباط ، وخصوصا أن سياق الصورة يتموقع عندما بدأت الكلاب سواء أكانت حقيقية أم مجازا تتبع آثار اللص الذي اختفى في الظلام بين القبور، هذا الفضاء الذي يؤشر على الموت والنهاية التراجيدية، ولكن هذه النهاية بلا أمل ولا غاية.
أما على المستوى البلاغي، فالسارد يعمد إلى تشخيص الموقف عبر تأزيمه عندما جعل الحياة تحكم على إنجازات سعيد مهران بالفشل والعبثية لأنها إنجازات غير مكتملة ،وبالتالي لم تحقق معناها في هذا العالم غير المكتمل ،كما ساهمت هذه الاستعارات الروائية في مأساوية الموقف ودراميته عندما كررت الحياة حكمها على لسان السارد بأنها عبث. كما وظف نجيب محفوظ تقنية الالتفات وذلك عندما تحدث عن نجاة الأوغاد ، وأن الحياة قالت كلمتها الأخيرة بأن حياة سعيد مهران عبث، والتفت بعد ذلك إلى نباح الكلاب لتحديد مصدرها. ومن ثم، انتقل من الغياب إلى الخطاب، ليلتفت إلى شخصية مهران رغبة في تأكيد عبثية حياته. وهذا الالتفات على مستوى التلقي له وظائف جمالية عدة من بينها: التشويق؛ لأن القارئ ينتظر نهاية الشخصية واندحارها وذوبانها بعد أن تحاصرها الكلاب. إلا أن السارد قبل أن يحدد هذا الحصار، يوقف القارئ إلى عبثية الشخصية، ثم يعود إلى تأكيد الحصار وتعدد مصادر نباح الكلاب، ويعود في الأخير ليؤكد عبثية حياة سعيد مهران ولا جدواها:" وصاح صوت وقور:
- سلم، وأعدك بأنك ستعامل بإنسانية.
- كإنسانية رؤوف ونبوية وعليش والكلاب!(....)
- - حسن ماذا تنوي؟ اختر بين الموت وبين الوقوف أمام العدالة.
- فصرخ بازدراء:
- - العدالة!
- أنت عنيد، أمامك دقيقة واحدة...
ورأت عيناه المعذبتان بالخوف شبح الموت يشق الظلام".
في هذه الصورة الروائية، يتم تصوير موقف الحصار وتأزيمه عبر توتر الأحداث ودراميتها باعتباره سياقا للصورة. يطلب أصحاب القرار والسلطة من سعيد مهران أن يسلم نفسه وأنه سوف يعامل بإنسانية؛ بيد أن سعيد مهران سفه عبر المناجاة الداخلية والمنولوج من خلال حوار الذات المتأزمة منطق تلك الإنسانية . وإن علامة التعجب التي استخدمها الكاتب أيقونيا دلالة على الاستهزاء والسخرية والتهكم من مفاهيم الواقع المتعفن وتصوراته الإيديولوجية المستلبة . إن الإنسانية في هذه الصورة الروائية مكثفة بالترميز والإيحاء الذي يلمح إلى التفكير البراجماتي القائم على المصلحة والمنفعة.
إن سعيد مهران كما يتضح من خلال الصور الروائية الجزئية والبناء الكلي لدلالة العمل رمز للوطنية الصادقة والروح الشعبية الحقيقية والنضال الاجتماعي المستميت من أجل المبادئ والقيم الأصيلة. وقد كان بمثابة نبراس يستضيء به الكثيرون من أبناء الشعب الكادح والمقهور في حياتهم التي يسودها النفاق الاجتماعي والابتزاز اللامشروع باسم النضال. إن شخصية سعيد مهران لهي شخصية متمردة عن قيم المجتمع ومبادئه الزائفة التي طالما دنست كرامة الإنسان وأنفته.
و لايسعنا في آخر هذا المبحث إلا أن نؤكد بأن صورة الشخصية لايمكن أخذها مأخذا جماليا وفنيا إلا في إطارها الإنساني وسياقها الجزئي والكلي عبر مستوياتها الخمس: قواعد الجنس والطاقة اللغوية والطاقة البلاغية والمستوى الذهني والسياق النصي.
وهكذا اهتدينا في مبحثنا إلى إثارة الانتباه إلى أهمية الصورة الروائية وضرورتها في كل عملية تحليلية يمكن" أن يخضع لها نص روائي، مبرزا فعاليتها الجمالية في التكوين النصي، ولقد ترتب عن تبني الصورة الروائية باعتبارها مكونا بلاغيا جديدا ضرورة استثمار مكونات وسمات روائية قلما استغلت طاقاتها في مجال التحليل الروائي كالامتداد والتوتر والتكثيف والدينامية والصور الذهنية والجزئية والكلية".
وبناء على ماسبق، لابد أثناء مقاربة الصورة الروائية للشخصية من مراعاة خصوصيات التجنيس الروائي السردي، وتجاوز مفاهيم الشعر ومصطلحاته الإجرائية إلى التسلح بمفاهيم مستمدة من جنس الرواية بصفة خاصة وفن السرد بصفة عامة.
وهكذا نؤكد مطمئنين أن الصورة الروائية لقراءة جادة ومعاصرة في مقاربة النصوص الروائية في أبعادها الجمالية والأسلوبية والإنسانية والبلاغية عبر سياقاتها الذهنية والخارجية والنصية.

المتن الحكائي:

تصور رواية" اللص والكلاب" سعيد مهران بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه سنوات عدة، أربع منها كانت غدرا، كان وراءها المعلم عليش سدرة وزوجته نبوية اللذين تآمرا عليه ودبرا له مكيدة للتخلص من وجوده العابث وتهديداته الطائشة، فأصبحت بنته سناء في كنف أمها ورعاية عليش منذ عامها الأول. بينما غيّب سعيد مهران بين قضبان السجون يندب حظه التعيس وأيامه النكداء بسبب مبادئه الثورية الزائفة التي لقنها إياها معلمه رؤوف علوان:
" مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لايطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويا على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولاشفة تفتر عن ابتسامة... وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدرا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديا. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائعة. نبوية وعليش، كيف انقلب الاسمان اسما واجدا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب"
يشكل هذه المقطع الاستهلال الروائي الحدثي بؤرة الرواية وتمفصلها الأساسي ؛ لأنه يلخص كل الأحداث التي وقعت والتي ستقع داخل الرواية، كما توجز حبكة الرواية وعقدتها الجوهرية التي تتمثل في الانتقام من الخونة والثأر من الذين غدروا به وهم: المعلم عليش وزوجته نبوية ورؤوف علوان.
وبعد ذلك، يلتجئ الروائي إلى تمطيط هذا الاستهلال وتوسيعه وتبئيره سردا وتحبيكا وتشويقا عبر مسار المتن الحكائي، لتكون النهاية سلبية تنتهي باستسلام سعيد مهران وموته وفشله في إنجاز مهمته وأداء البرامج السردية التي أنيط بترجمتها وتنفيذها. ومن ثم، تصبح شخصية سعيد مهران شخصية إشكالية غير منجزة بسبب فشلها الذريع في الانتقام من أعدائه الخونة؛ بسبب السقوط في شرك الأخطاء والظنون والتوهمات العابثة التي جعلت الحياة في منظورها بدون جدوى ولا معنى .
وإذا كان الاستهلال الروائي ينبني على حبكة حدثية مسبقة، فإن المتن أو المركز الوسطي هو تنفيذ للانتقام والثأر. بيد أن هذا الفعل كان مجانيا وعشوائيا لايصيب إلا الأبرياء من البوابين وضحايا المستغلين البشعين. أما نهاية الرواية، فقد ركزت على فعل المطاردة وسحق المجرم تحت ضربات وطلقات الرصاص التي حولت مكان اختباء سعيد مهران إلى مقبرة مصيرية له.
وبهذا، تتخذ الرواية طابعا سينمائيا حركيا Action ، لأن المتن الروائي كتب بطريقة السيناريو القابل للتشخيص السينمائي والإخراج الفيلمي الدرامي. وفعلا، فقد تم إخراج هذا الفيلم سينمائيا منذ سنوات مضت في مصر؛ نظرا لتوفر الرواية على لقطات بصرية وحركية تستطيع جذب المتفرج.
وعلى أي، فبعد خروج سعيد مهران من زنزانته العدائية المغلقة، لم يجد أحدا من عائلته وأقربائه وأصدقائه في انتظاره خارج السجن، وهذا يشير إلى كونه مكروها من الجميع ومنبوذا بسبب سلوكياته المنفرة. بيد أن ماكان يسرقه من منازل الأغنياء وڤيلاتهم كان يعتبر فعلا بطوليا عند رؤف علوان، إنه نتاج التفاوت الاجتماعي والصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء. ولم يلتجئ سعيد مهران إلى هذه السرقة الطبقية إلا بعد موت أسرته الفقيرة ، أبيه البواب الذي مات مريدا سالكا مؤمنا حامدا لله، والأم التي عبث بها الفقر والنكد حتى ماتت طريحة الفراش في البيت المنهوك من شدة الفاقة و فوق سرير المستشفى الذي بقيت فيه بدون عناية ورعاية صحية إنسانية.
ولم يبق أمام سعيد مهران في هذه الظروف الصعبة إلا بالجمع بين دراسته والاشتغال بوابا، ليستكمل حياته بسرقة طلاب العلم وممتلكات الأغنياء. وكان أستاذه رؤوف علوان يشجعه على ذلك؛ لأن مصر الثورة كانت تتصارع جدليا مع الأسياد الأغنياء الذين حولوا الشعب المصري إلى عبيد ومستضعفين. وقد أشاد رؤوف علوان بهذه السرقات التي كان يعتبرها فعلا بطوليا و إنجازا ثوريا للقضاء على الطبقة الإقطاعية الغنية.
وهكذا، قرر سعيد مهران بعد خروجه من فضائه العدواني المنغلق أن ينتقم أولا من المعلم عليش وزوجته نبوية، واتجه حيال منزلهما بميدان القلعة الذي وجده محفوفا بالمخبرين الذين يحرسونه من كل سوء، وينتظرون اليوم الذي ستفتح أبواب السجن لسعيد ليأخذ ثأره على غرار أهل الصعيد في جنوب مصر.
ولما فشلت مفاوضات سعيد مع عليش حول استرجاع البنت والزوجة اللتين أنكرتا وجود سعيد واستنكرتا تصرفاته الدنيئة وسرقاته الموصوفة وتهديداته الماكرة، قرر سعيد مهران الاستعداد للمهمة والتأهب للانتقام من المعلم عليش، بعد أن نصحه المعلم بياضة والمخبر بالابتعاد عن هذه السكة التي لاتحمد عواقبها .
وغير سعيد وجهته، فقصد رؤوف علوان الذي أصبح صاحب جريدة ثورية مشهورة في البلد تسمى بـــ" الزهرة" تدافع عن سياسة الحكومة الجديدة، وصار بفضلها من أغنياء البلد ورجالها المعروفين في المجتمع والمقربين من رجال السلطة المحترمين.
وعندما استضاف رؤوف علوان سعيد مهران في منزله الفاخر في شكل ڤيلا واسعة الأرجاء ، كثيرة الأثاث والتحف الغنية، نادمه وأعطاه بعض النقود ليستكمل حياته من جديد بشرف وكرامة. وطلب سعيد من رؤوف أن يشغله محررا في جريدته، لكن رؤوف رفض ذلك، وأمره بأن يبحث عن شغل آخر يتناسب مع وضعه الاجتماعي.
وعندما خرج إلى المدينة تائها في طرقاتها وشوارعها، فكر في خطة الانتقام والتخلص أولا من رؤوف علوان الذي خان مبادئ الثورة وقيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وصار خادعا للشعب وماكرا كبيرا يزيف الحقائق التي من أجلها دخل سعيد السجن ومكث فيه سنوات عدة، أربع منها كانت بسبب الغدر والكيد الخادع.
وعندما فشلت محاولة سعيد مهران في سرقة ممتلكات مسكن رؤوف علوان الذي كان ينتظره بمسدسه العاتي؛ لأنه كان يعلم أن سعيد سيأتي للانتقام منه وسرقة مايملكه من أموال وأشياء ثمينة، فاسترد منه رؤوف جنيهاته ، وحذره أن يعيد الكرة وإلا سيزج به في السجن مرة أخرى.
وبعد أن عفا عنه رؤوف علوان،اتجه سعيد صوب رباط الشيخ علي الجنيدي للاستراحة الروحية والنفسية . وكان علي الجنيدي نقيب السالكين العارفين صديقا وفيا لأبيه الصالح، الذي قضى بدوره حياته في الجذب الصوفي والسفر النوراني والتعراج الروحاني مقتربا من الحضرة الربانية والسعادة القدسية اللدنية.
وبوصول سعيد إلى فضاء الجنيدي المفتوح، أحس براحة داخلية تغمره داخل هذا الفضاء العرفاني الصادق، على الرغم مما كان يحس به من ظمإ وجوع ينخران جسمه المتهالك، وماكان يعانيه من شدة الحقد والحنق على عليش ونبوية ورؤوف.
وكانت لسعيد مهران صداقة حميمية مع المعلم طرزان صاحب مقهى كان يتعود عليه قبل الزج به في السجن، وعرفه سعيد بآخر الأخبار، وطلب منه أن يساعده بمسدس لينتقم من الأوغاد والخونة والكلاب المسعورة التي تنهش اللحوم البشرية النيئة.
ويعد ذلك، سيعرف سعيد عشيقته نور حسناء الحانات والملاهي والأماكن الخالية ، والتي كانت في الماضي معجبة بفتوة سعيد وشجاعته الرجولية، لكن سعيد كان مغرما بخائنته نبوية.
ويقضي سعيد مهران أياما مع نور في شقتها المهترئة من شدة الفقر بين الانتظار اليائس واقتناص لذات الجسد العاطش. ومن هذه الشقة المتواضعة، كان ينطلق سعيد ليصوب رصاصاته الطائشة على علوان وزوجته نبوية ورؤوف علوان، بيد أن هذه الرصاصات كانت تخطئهم جميعا لتصيب الأبرياء والبوابين وضحايا الغبن والاستغلال. وهذا ماجعلت الصحف تكتب عن هذه الجرائم العابثة في حق الأبرياء والضعفاء والفقراء ، والتي لحسن الحظ كان ينجو منها الماكرون والخونة.
وفي الأخير، لم تجد كل محاولات الثأر والانتقام، فغدا سعيد مهران إلى فضاء الشيخ الجنيدي ليستلقي بجسده المتعب من شدة الضنى والتعب العابثين. ومن هناك، سيهرب سعيد إلى المقبرة بعد أن أحس بمطاردة المخبرين والكلاب له في كل مكان وناحية، فلم يجد حلا سوى الاستسلام للأوغاد والكلاب الذين أردوه طريحا بين أحضان المقبرة الصامتة لتضع نهاية لحياته العابثة: " وفي جنون صرخ: - ياكلاب! - وواصل إطلاق النار في جميع الجهات.
وإذا بالضوء الصارخ ينطفئ بغتة فيسود الظلام. وإذا بالرصاص يسكت فيسود الصمت. وكف عن إطلاق النار بلا إرادة. وتغلغل الصمت في الدنيا جميعا. وحلت بالعالم حال من الغرابة المذهلة. وتساءل عن.... ولكن سرعان ماتلاشى التساؤل وموضوعه على السواء وبلا أدنى أمل. وظن أنهم تراجعوا وذابوا في الليل. وأنه لابد قد انتصر.وتكاثف الظلام فلم يعد يرى شيئا ولا أشباح القبور. لاشيء يريد أن يرى. وغاص في الأعماق بلا نهاية. ولم يعرف لنفسه وضعا ولا موضوعا ولا غاية. وجاهد بكل قوة ليسيطر على شيء ما، ليبذل مقاومة أخيرة. ليظفر عبثا بذكرى مستعصية. وأخيرا لم يجد بدا من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة... بلا مبالاة..."
وهكذا، تنتهي الرواية بنهاية تنم عن العبث والاستهتار واللامبالاة والاستسلام بدون إرادة واعية ؛ لأن الحياة لاتستحق أن تعاش بين هؤلاء الكلاب اللعينة الغادرة.

الأبعاد النفسية و المرجعية في الرواية:

ببدو سعيد مهران شخصية غير متوازنة وغير متزنة بسبب كثرة أخطائها في إصابة أهدافها، كما أنها شخصية إشكالية تتأرجح بين الذات والموضوع، وتعاني من الصراع الداخلي ومن التمزق النفسي الناتجين عن خيانة زوجته نبوية وصديقه عليش سدرة وأستاذه رؤوف علوان الذي كان يعلمه النضال والثورة على الفقر عن طريق سرقة الأغنياء بطريقة فردية أو بطريقة جماعية منظمة، وكان منبهرا بصوته الثوري القوي وبمبادئه الاشتراكية الرائعة التي تسوي بين الفقراء والأغنياء في تقسيم ثروة الوطن وتوزيعها بعدالة على الشعب وأبناء المجتمع، بيد أن هذه الشعارات كانت جوفاء فارغة من كل معنى.
وعليه، فسعيد مهران بخروجه من السجن صار شخصية أخرى تريد الانتقام والثار ، أي أصبحت شخصية عدوانية حاقدة جاءت لتشعل النار في أجساد الخائنين والماكرين الخادعين الذين زجوا به في السجن كيدا وخديعة. ومن ثم، يتسلح سعيد مهران بالمسدس ليصفي حساباته مع كل الأوغاد الذين فرطوا في قيم التلمذة والصداقة و المحبة. لذا، يتحول سعيد إلى شخصية عدوانية عابثة ترى الوجود كله يأسا وسأما وعبثا بلا معنى ولا جدوى.
ويلاحظ أن التناتوس ( الموت أو الغرائز العدوانية ) هو الذي كان يحرك سعيد مهران شعوريا ولاشعوريا ، وهو الذي كان يدفعه لتصفية الحسابات مع الخونة والقضاء على حياتهم، ولكن شخصية مهران لم تكن تخطط جيدا لأهدافها. ومن ثم، كان قتله للأبرياء والبوابين دليل على مدى عبثية حياته ولا جدوى وجوده.
ومن ناحية أخرى، كان نجيب محفوظ ينتقد التجربة الاشتراكية الناصرية والضباط الأحرار والتابعين لنهجهم الذين كانوا يطلقون شعارات وطنية ثورية إبان مرحلة الملكية في عهد الملك فاروق ؛ إذ كانوا ينددون بالفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي والمجتمعي، ويدعون إلى الحرية والديمقراطية ودسترة البلاد وتحقيق العدالة الاجتماعية. ولكن لما تولى الضباط الأحرار الحكم وتسلم محمد نجيب وجمال عبد الناصر الحكم، كثر الفساد في هذه المرحلة وهيمنت البيروقراطية وأممت ممتلكات الشعب وازداد الفقر وكثر الجوع وانتشر الظلم الاجتماعي، واستفاد الثوار الاشتراكيون من المناصب السامية وأصبحوا متبرجزين على غرار الباشاوات في عهد الملكية المطلقة، وما رؤوف علوان إلا نموذج للانتهازية إبان الخمسينيات وفترة الستينيات. وخان الدعاة والساسة الشعارات الاشتراكية التي كانوا يدافعون عنها، ومكروا بالشعب واستفادوا من الثروات الطائلة، وسببت هذه الخيانة فيما بعد في عدة نكسات وهزائم استنزفت خزينة الدولة، ولاسيما الهزيمة النكراء التي انتصر فيها العدو الصهيوني على العرب وقوضت مكانة جمال عبد الناصر قوميا سنة 1967م.
ويقول غالي شكري محددا مرجعية الرواية وسياقها الخارجي:" تنتقل بنا ( الرواية) من الجو الملحمي إلى قلب التراجيديا مباشرة. ذلك أن التغيير المنشود قد تم في مناخ أقل ما يوصف به أنه شديد الاضطراب، فلا تنظيم سياسي يقود تطلعات الجماهير إلى الاشتراكية، والقرارت الفردية تنزل من عل فلا يتحقق منها ما يتحقق إلا بالقهر ودون مراجعة، والمنتمون الثوريون يعجزون عن المشاركة في تصحيح ما يستوجب التصحيح... وفي ظل هذا الغياب الشامل للتنظيم والديمقراطية جنبا إلى جنب القرارات العلوية التي لا يتسق مضمونها مع أدوات التنفيذ للدولة القديمة المهيمنة، يقع المنتمي في أزمة جديدة عنيفة بين الوجه الذي علمه الثورة وانضم إلى صفوف الطبقة الجديدة الوليدة وخان، وبين الوجه الرابض في أعماقه للكتاب والمسدس."
ويعني هذا أن سعيد مهران شخصية ثورية تحاول تغيير الواقع ولكن بدون هدف، أي إنها لم تنجح في ذلك أيما نجاح. ولقد " أضاف الواقع الحي إلى انتصارات العلم والفكر الاشتراكي، أن طبقة جديدة قد ولدت في ظل الفراغ التنظيمي والسياسي والأيديولوجي، وأن هذه الطبقة التي يمثلها في الرواية" الصحفي" رؤوف علوان قد خانت مبادئ الثورة وأمست العدو الأول لسعيد مهران وما يمثله من قيم... وكذلك أضاف الواقع الحي أن الشيخ الجنيدي لم يكن في جعبته من التصوف ما يشفي غليل سعيد مهران إلى الحرية والعدل".
ولا أتفق مع ماذهب إليه غالي شكري في تعليله لموقف الشيخ علي الجنيدي؛ لأن الحل الحقيقي لأزمة سعيد مهران هو الحل الديني والصوفي، وذلك بتنقية الضمير من ترهات الثوار الاشتراكيين الذين فشلوا في تغيير الواقع وزجوا بسعيد مهران إلى السجن، فالحل- إذاً- هو العودة إلى الله الضامن الحقيقي للسعادة البشرية. وإن رؤوف وأمثاله من الخونة انتهازيون لن يقدموا أي حل يسعد الإنسان سوى الحل الروحاني الذي يشير إليه علي الجنيدي عن طريق تغيير الإنسان لنفسه وتطهيرها من أطماع الدنيا الزائلة والتخلي عن شوائب الأيديولوجيا الزائفة والارتماء بين أحضان الرب. وموقف الجنيدي كان واضحا وهو أن يبدأ سعيد بالتصالح مع الله، وأن يقتنع بالوجود الحقيقي بدلا من الوجود الإيديولوجي والعبثي الذي يبحث عنه. و لن يتحقق التغيير في المجتمع إلا بالاتكال على الله والتحلي بالصدق والعودة إلى هداية الله وتمثل شريعته المستقيمة. وما هزيمة مصر في حرب حزيران 1967م أمام القوى الصهيونية والغربية سوى مؤشر على النفاق وتضعضع السياسة الناصرية والاحتكام إلى الأهواء الشخصية والإيديولوجية.

الفضاء الروائي:

يرصد نجيب محفوظ في هذه الرواية الفلسفية العبثية مدينة القاهرة بفضاءاتها المتناقضة إبان المرحلة الاشتراكية الناصرية في سنوات عقد الخمسين وسنوات عقد الستين حيث كانت تتميز بالتفاوت الاجتماعي والصراع الطبقي.
فيعد انتهاء المرحلة الملكية ونفي الملك فاروق إلى إيطاليا، تولى الضباط الأحرار حكم مصر ونهجوا السياسة الثورية الاشتراكية. بيد أن الشعارات التي كانوا يدعون إليها شعارات زائفة لاتعبر إلا عن الممارسة الأرستقراطية الحقيقية. أي إن فترة العهد الناصري كانت تتميز بانعدام العدالة الاجتماعية، وانتشار الفقر والفاقة بين أوساط المجتمع، وانتشار البيروقراطية وخيانة المبادئ الثورية الاشتراكية، وانتشار الغنى الفاحش بين أوساط الضباط الأحرار والتابعين لهم. ولم تطبق الاشتراكية ميدانيا كما كان يدعو إليها الثوار، بل خان هؤلاء المبادئ والشعارات التي كانوا يرددونها.
ومن الفضاءات التي نستحضرها في هذا النص الروائي الفضاء العدائي الذي يتمثل في السجن الذي قضى فيه سعيد مهران سنوات عدة منها أربع سنوات قضاها غدرا وخيانة من قبل عليش ونبوية ورؤوف علوان. ومن الفضاءات العدائية الأخرى نذكر المقبرة التي استسلم فيها سعيد للامبالاة والأوغاد الخونة، والمقهى الذي تحول إلى مكان للمخبرين الذين يتصيدون سعيد للإيقاع به.
كما توجد فضاءات حميمية مقابلة كفضاء التصوف الذي يسهر عليه الشيخ علي الجنيدي، ومنزل نور الذي يختبئ فيه من أعدائه والمخبرين الذين يتتبعونه في كل مكان.
أما فضاء العتبة أو فضاء المأساة والمواقف المتأزمة فيتمثل في الشوارع والمقاهي المفتوحة والحارات المكتظة بالناس، وميدان القاهرة الذي يغص بالناس من فئات اجتماعية وطبقية مختلفة.
ويمكن تصنيف فضاءات الرواية إلى فضاءات منغلقة كالسجن وبيت عليش وشقة نور وڤيلا رؤوف علوان، وفضاءات مفتوحة كالرباط الصوفي ومقهى المعلم طرزان وفضاء الصحراء.
وقد انتقل الكاتب في وصفه والتقاطه للفضاءات المكانية من لقطات عامة تهدف إلى تصوير فضاء القاهرة، وبعد ذلك ينتقل إلى لقطات متوسطة لتصوير شوارع الميدان، لينتقل في الأخير بالكاميرا إلى التقاط صورة المقهى ومنزل عليش.
ومن هنا، تتداخل الأمكنة والفضاءات الحميمية والعدائية والمتفاوتة طبقيا واجتماعيا في مصر الستينيات من القرن الماضي التي كانت تتسم بجدلية الصراع الداخلي والخارجي.

من خلال هذه المضامين يتبين أن :
القوى الفاعلة هي صانعة الحدث ،وأول هذه القوى الشخصيات والبداية كانت مع سعيد مهران بطل الرواية ، ضحية مؤامرة الغدر والخيانة خرج من السجن ليثأر من الكلاب ،بدأ في تنفيذ ما عزم عليه من انتقام وثأر، محتميا مع كل واقعة بنور حتى تهدأ العاصفة ويسترجع أنفاسه،ويتحرك من جديد مع جريمة ثانية ،إلا أن الفشل كان يلاحقه في كل مرة ، فيفقد التركيز والقدرة على التحرك بحرية مما عجل بنهايته .
ويعتبر عليش صبي سعيد بطل المؤامرة، أوقع بسعيد في السجن ليظفر بالمال ونبوية الزوجة الخائنة التي تواطأت مع عليش للتخلص من سعيد.أما رءوف ،صديق سعيد الذي زرع فيه مبادئ التمرد على المجتمع والطبقية وتنكر لها ولصديقه، تحول إلى عامل معاكس ،حرض الرأي العام وشدد الخناق على سعيد بمقالاته الصحفية المبالغة في تضخيم الحدث، ويصبح عامل موضوع عندما أصبح مستهدفا في عملية الانتقام ليزداد قوة كعامل معاكس أحبط خطة سعيد وأزم وضعيته.
وتتوزع باقي الشخصيات بين شخصيات معارضة كالمخبر الذي لعب دور الوسيط بين سعيد وعليش ويقدم الدعم والحماية القانونية لعليش،و سكان الحارة ويرى فيهم سعيد امتدادا للخيانة والغدر بقبولهم التعايش مع عليش وخاصة المعلم بياضة. أما الشخصيات المساعدة فنجد طرزان صاحب المقهى، يمد سعيد بمساعدات تعينه على متابعة مخططه الانتقامي،و نور امرأة تمتهن الدعارة وتقدم الدعم والعون لسعيد إلى حد المخاطرة بحياتها ،فكانت عاملا مساعدا تمثل الخلاص الآمن لسعيد قبل أن تصبح عاملا معاكسا بغيابها الذي عجل بنهاية سعيد ،كما نجد الشيخ على الجنيدي صديق والد سعيد، ويمثل الجانب الروحي الغائب عن سعيد، فأصبح ملاذا لسعيد كلما ضاقت به السبل ،وهناك شخصيات عارضة وضعتها الصدفة في طريق سعيد ولم تسلم من شره كصاحب السيارة غنيمة عرضية مكن سعيد من انجاز خطته الانتقامية بكل سهولة،و شعبان حسن ثم البواب ضحية تقديرات سعيد الخاطئة ،في حين يبقى رجال الشرطة عاملا معاكسا ضيق الخناق على سعيد إلى حد القضاء عليه.
وكانت المواقع هي المجال الذي تستثمر فيه الشخصيات الحدث والبداية من ميدان القلعة ، الحي الذي كان يقطنه سعيد ، منه دبرت مؤامرة سجنه، وإليه عاد للانتقام،وهو مسرح أول جريمة يقترفها ،ويعتبر طريق الجبل مأوى سعيد يلجأ إليه كلما ضاقت به السبل وعز الأصحاب كما مكنه من التخفي بعيدا عن أعين الشرطة ،و بيت رءوف يعتبر شاهدا على تبدل القيم وأول نقطة يباشر منها سعيد انتقامه وهو أيضا مسرح الجريمة الثانية الفاشلة،وهناك مواقع مساعدة كالمقهى الذي يمثل السند والحماية الخلفية لسعيد، و بيت نور عامل مساعد أيضا مكن سعيد من الشعور بالأمان، ومتابعة تطورات جريمته عن بعد قبل أن يتحول إلى مصدر تهديد لسعيد عند غياب نور المفاجئ ، وتمثل المقبرة النهاية الحتمية لأخطاء سعيد الطائشة.
من هنا كانت الوقائع كلها تتمركز حول أطوار عملية الانتقام التي باشرها سعيد بعد خروجه من السجن ،حيث تكونت لديه معطيات مقنعة لتبرير عملياته الانتقامية ،والبداية كانت مع صديقه رءوف الذي أحبط محاولته، ليشرع سعيد في مباشرة خطة الانتقام بطريقة عملية ومدروسة،إلا أن الفشل كان حليفه مرة أخرى،ليعاود عملية انتقامية جديدة صوبت نحو رءوف وكانت ناجحة على مستوى الإعداد وفشلت بفعل التسرع والتهور. فضيق سعيد الخناق على نفسه حيث تمت محاصرته من كل الجوانب والقضاء عليه دون أن يظفر بشيء مما كان يخطط له .
ففصول الرواية بكل تجلياتها تضعنا أمام وضع اجتماعي منحرف يجمع بين الجريمة وفساد القيم ،مع ما توفره السلطة من حماية وتغطية تزيد من قوة المفسدين الكبار ، إضافة إلى ما تكشف عنه الدعارة من مآسي إنسانية كارثيه ، و تجارة السلاح التي تغذي عنصر الجريمة وما يتنج عنها من ضحايا أبرياء لا علاقة لهم بالصراع.
وأمام هذا الغليان الاجتماعي لا يمكن إلا أن نجد بعدا نفسيا يطبعه التوتر والتوجس كقاسم مشترك بين كل الشخصيات وإن اختلفت الأسباب والدوافع ،وقد تطور إلى الغضب والحقد والرغبة في الانتقام في سادية واضحة تغمر سعيد وهو يقبل على الانتقام ،أو رءوف وهو يتلذذ بمطاردة سعيد للتخلص منه، لتكون النهاية مثخنة بالإحباط والندم ثم الموت،بعد مشوار طويل من القلق والاضطراب والضياع.
ونجيب محفوظ كان بارعا في نقل فصول وأطوار العملية الانتقامية التي كرس لها سعيد كل جهوده ،حيث أخضع الرواية لبناء محكم يبدأ بالوضعية الأولية،ثم سيرورة الحدث وتطوراته، وانتهاء بالوضعية النهائية التي تضعنا أمام نهاية الحدث والنتيجة التي آل إليها سعيد مهران.
ويستند الكاتب في نقل تفاصيل رواية "اللص والكلاب" إلى الرؤية من الخلف واستعمال ضمير الغائب والسارد المحايد الموضوعي الذي لا يشارك في القصة كما في الرؤية من الداخل، بل يقف محايدا من الأحداث يصف ويسرد الوقائع بكل موضوعية، فهو يملك معرفة مطلقة عن الشخصيات ويعرف كل شيء عن شخصياته المرصودة داخل المتن الروائي خارجيا ونفسيا.
ومن وظائف السارد في الرواية السرد والحكي، وهذه هي الوظيفة الأساسية للسارد، إضافة إلى وظيفة التنسيق بين الشخصيات، ووظيفة الوصف من خلال تشخيص الشخصيات ووصف الأمكنة والأشياء ، ووظيفة النقد التي تتجلى في نقد الواقع وتشخيص عيوبه ومساوئه الكثيرة ولاسيما تفاوته الاجتماعي والطبقي.
وهذا ما جعل الوصف ينصب على الأشخاص والأمكنة والأشياء والوسائل، وله وظائف جمالية ودلالية وتوضيحية تفسيرية. ويقوم الوصف بتمثيل الموجود مسبقا ومحاكاته من أجل الإيهام بوجوده الحقيقي والمرجعي (الإيهام بالواقعية). ويهتم الوصف في الرواية الواقعية بتحديد المجال العام الذي يتحرك فيه الأبطال. ويعني هذا أن الوصف يستخدم في تحديد الخطوط العريضة لديكور الرواية، ثم لإيضاح بعض العناصر التي تتميز بشيء من الأهمية.
ومن العناصر التي تم التركيز عليها وصفا وتشخيصا وتجسيدا تصوير الشخصيات فيزيولوجيا واجتماعيا وأخلاقيا ونفسانيا، كوصف سناء التي أثارت أباها سعيد مهران بوجودها الرائع؛ ويصف الكاتب رءوف علوان ساخرا من مبادئه الزائفة وثورته الواهمة التي ذهب ضحيتها كثير من الأبرياء والفقراء ، ووصف عليش سدرة و زوجته نبوية وخليلة سعيد نور في عدة مواضع من الرواية عبر مستويات خارجية واجتماعية وأخلاقية ونفسية تكشف لنا انتهازية عليش وخيانة رءوف علوان ومكر نبوية واستهتار نور، وصفاء الشيخ الجنيدي ونكران سناء لأبيها الخارج من السجن .
وينقل لنا الكاتب أمكنة متناقضة ، البعض منها يوحي بالغنى والثراء كڤيلا رءوف علوان الغاصة بالأشياء الثمينة، والبعض الآخر يوحي بالفقر والفاقة والخصاص كشقة نور.
و يلاحظ أن الكاتب لم يفصل كثيرا في وصف شخصياته وأماكنه وأشيائه ، بل اكتفى بفقرات موجزة ومقاطع موحية.
و يلاحظ أن الزمن السردي في الرواية زمن صاعد خطي ينطلق من حاضر الخروج من السجن إلى مستقبل الاستسلام والموت. بيد أن هذا الزمن ينحرف تارة إلى الماضي لاسترجاعه( فلاش باك)، أو إلى المستقبل من أجل استشرافه. و يزاوج الكاتب على مستوى الإيقاع بين السرعة والبطء،ويتجلى إيقاع السرعة في الحذف والتلخيص، أما إيقاع البطء فيكمن في الوقفة الوصفية والمشاهد الدرامية.
وبهذا، تتخذ الرواية طابعا سينمائيا حركيا ، لأن المتن الروائي كتب بطريقة السيناريو القابل للتشخيص السينمائي والإخراج الفيلمي الدرامي. وفعلا، فقد تم إخراج هذا الفيلم سينمائيا منذ سنوات مضت في مصر؛ نظرا لتوفر الرواية على لقطات بصرية وحركية تستطيع جذب المتفرج.
وعلى مستوى الصياغة الأسلوبية وظف نجيب محفوظ في روايته عدة أساليب سردية لنقل الأحداث والتعبير عن مواقف الشخصيات. ولقد أكثر من السرد ليقترب من الواقع أكثر لمحاكاته وتسجيله وتشخيصه بطريقة تراجيدية. وفي نفس الوقت، يلتجئ إلى الحوار قصد معرفة تصورات الشخصيات وتناقض مواقفها الإيديولوجية. كما التجأ أيضاإلى المنولوج للتعبير عن صراع الشخصيات وتمزقاتها الداخلية ذهنيا ونفسيا.ويحضر أسلوب سردي آخر يسمى بالأسلوب غير المباشر الحر الذي يختلط فيه كلام السارد مع كلام الشخصية وهو كثير بين ثنايا الرواية وعلى الرغم من كل هذه الأساليب، فإن السرد يبقى هو المهيمن على غرار الروايات الواقعية والوجودية، كما استعان الكاتب بالوصف أثناء تقديم الشخصيات والأمكنة والأشياء والوسائل وتحيين المشاهد الدرامية.
وتمتاز لغة نجيب محفوظ بكونها لغة واقعية تصويرية تستند إلى تسجيل المرجع وتمويهه بلغة تتداخل فيها الفصحى والعامية المصرية ليقترب أكثر من خصوبة الواقع العربي المصري. لذالك استعمل الكاتب تعابير العامية المصرية وأساليبها وألفاظها وصيغها المسكوكة. كما استعمل قواميس تدل على حقول دلالية مثل: حقل الأثاث، وحقل الطبيعة، وحقل الدين والتصوف، وحقل الصحافة والإعلام، وحقل السلطة والجريمة، وحقل الوجود و العبث، وحقل القيم، وحقل المجتمع، وحقل السياسة....
وعلى الرغم من استخدام اللغة الطبيعية الواقعية المباشرة التي تنبني على الخاصية التقريرية الجافة الخالية من كل محسن بلاغي وشاعري، إلا أن الكاتب يوظف في بعض الأحيان تعابير قائمة على المشابهة ( التشبيه والاستعارة)، والمجاورة (المجاز المرسل والكناية)، واستعمال الرموز (اللصوص والكلاب...) لتشخيص الأحداث والمواقف وتجسيدها ذهنيا وجماليا.
وعلى الرغم من كلاسيكية بناء الرواية، فقد استفاد نجيب محفوظ من تقنيات الرواية الجديدة ومن آليات الرواية المنولوجية وتيار الوعي أثناء استعمال الحوار الداخلي والارتداد إلى الخلف واستشراف المستقبل وتوظيف الأسلوب غير المباشر الحر، كما استفاد كثيرا من الرواية الواقعية في تجسيد الواقعية الانتقادية ذات الملامح الاجتماعية والسياسية عبث الحياة وقلق الإنسان في هذا الوجود الذي تنحط فيه القيم الأصيلة وتعلو فيه القيم المنحطة.
 
الحقوق محفوظة لـدروس وملخصات لتحضير البكالوريا 2010 | تعريب و تطوير : حسن
Pro Indexer Free Premium Blogger theme by Introblogger